فيلم “طعم الكرز” (Ta’m-e Gilas، 1997) للمخرج الإيراني عباس كيارستمي هو عمل سينمائي تأملي يُعتبر من أبرز الأفلام في السينما الفنية العالمية، حيث فاز بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان. يتميز الفيلم بأسلوبه البسيط والعميق في آن واحد، حيث يتناول قضايا وجودية مثل الحياة، الموت، الانتحار، والبحث عن المعنى من خلال قصة رجل يبحث عن شخص يساعده في إتمام خطته للانتحار. في هذه المراجعة، سأقدم شرحًا شاملًا للفيلم، تحليلًا لعناصره السينمائية والفلسفية، تفسيرًا لنهايته المثيرة للجدل، وتقييمًا عامًا لتأثيره.

تدور أحداث الفيلم حول بديعي، رجل في منتصف العمر يعاني من يأس وجودي يدفعه إلى اتخاذ قرار بالانتحار. يقود سيارته عبر المناظر الطبيعية القاحلة في ضواحي طهران، بحثًا عن شخص يقبل أن يدفنه بعد أن يتناول جرعة زائدة من الحبوب وينام في قبر حفره بنفسه تحت شجرة كرز. خلال رحلته، يلتقي بثلاث شخصيات رئيسية:
- جندي كردي شاب: يرفض عرض بديعي بشدة ويهرب منه، معبرًا عن خوفه وعدم استعداده للتعامل مع فكرة الموت.
- طالب دين أفغاني: يحاول إقناع بديعي بالعدول عن قراره من منظور ديني، مشيرًا إلى أن الانتحار حرام، لكنه يفتقر إلى القدرة على التأثير العاطفي.
- عالم حيوانات تركي: هذه الشخصية هي الأكثر تأثيرًا، إذ يروي قصة شخصية عن تجربته مع الانتحار. يحكي كيف فكر ذات مرة في إنهاء حياته، لكنه اكتشف جمال الحياة من خلال طعم الكرز الذي أكله من شجرة. ينصح بديعي بالبحث عن الجمال في الأشياء البسيطة مثل شروق الشمس أو طعم الفاكهة.
الفيلم ينتهي بنهاية مفتوحة ومثيرة للجدل، حيث نرى بديعي يستلقي في القبر، ثم يتحول المشهد فجأة إلى لقطات “خلف الكواليس” تُظهر طاقم التصوير وكيارستمي نفسه، مع مناظر طبيعية خضراء وموسيقى مبهجة.

تحليل الفيلم
1. الأسلوب السينمائي
- الواقعية والتبسيط: كيارستمي يستخدم أسلوبًا واقعيًا بصريًا، مع لقطات طويلة وبطيئة للمناظر الطبيعية القاحلة والطرق المتعرجة. التصوير يعكس الحالة النفسية لبديعي، حيث تعكس الأراضي الجرداء شعوره بالعزلة واليأس. السيارة، التي تتحرك في حلقات متكررة، ترمز إلى رحلته الداخلية العالقة.
- الإطار السينمائي: معظم المشاهد تُصوَّر داخل السيارة، مما يخلق شعورًا بالحصار. كيارستمي يستخدم زوايا كاميرا ثابتة، مثل لقطات وجه بديعي أو الشخصيات الأخرى من داخل السيارة، لتعزيز الحميمية والتركيز على الحوارات.
- الصوت والموسيقى: الفيلم يعتمد بشكل رئيسي على الأصوات الطبيعية (مثل صوت الرياح أو السيارة)، مع استخدام محدود للموسيقى حتى النهاية، حيث تظهر موسيقى لويس أرمسترونغ المبهجة في المشهد الأخير لخلق تناقض مع الجو الكئيب للقصة.
2. المواضيع الفلسفية
- البحث عن معنى الحياة: الفيلم يطرح سؤالًا جوهريًا: ما الذي يجعل الحياة تستحق العيش؟ بديعي يعاني من فراغ وجودي، لكن اللقاءات مع الشخصيات الثلاث تدفعه للتفكير في وجهات نظر مختلفة. الجندي يمثل الخوف من الموت، الطالب يمثل الدين، وعالم الحيوانات يمثل التجربة الحياتية والحكمة.
- الانتحار واليأس: على الرغم من أن الفيلم يتناول فكرة الانتحار، إلا أنه لا يقدم حكمًا أخلاقيًا. بدلاً من ذلك، يركز على الصراع الداخلي لبديعي واللحظات التي قد تجعله يعيد النظر في قراره.
- الجمال في البساطة: عالم الحيوانات التركي يقدم الفكرة الأكثر تأثيرًا في الفيلم: أن الجمال يكمن في الأشياء الصغيرة، مثل طعم الكرز أو منظر شروق الشمس. هذه الفكرة تعكس فلسفة كيارستمي في تقدير التفاصيل اليومية.
3. الشخصيات
- بديعي: شخصية غامضة، لا نعرف الكثير عن خلفيته أو أسباب يأسه. هذا الغموض متعمد، حيث يجعل بديعي رمزًا للإنسان العام الذي يبحث عن معنى. أداء الممثل همايون إرشادي هادئ لكنه عميق، يعبر عن اليأس من خلال نظراته وصمته.
- الشخصيات الثلاث: كل شخصية تمثل مرحلة من الحياة أو منظورًا فلسفيًا. الجندي يمثل الشباب والخوف، الطالب يمثل الدين والقواعد، وعالم الحيوانات يمثل النضج والحكمة المكتسبة من التجربة.
4. الرمزية
- شجرة الكرز: العنوان نفسه رمزي. الكرز يمثل المتع البسيطة التي يمكن أن تعيد للإنسان إحساسه بالحياة. الشجرة التي يختارها بديعي لتكون مكان موته تصبح رمزًا للتحول المحتمل من الموت إلى الحياة.
- المناظر الطبيعية: الأراضي القاحلة تعكس العقم العاطفي لبديعي، بينما المشهد الأخير (الربيع الملون) يرمز إلى التجدد والأمل.
- السيارة: ترمز إلى رحلة بديعي الداخلية، حيث يتحرك في دوائر دون وجهة واضحة، مما يعكس حالة التيه الوجودي.
تحليل النهاية
النهاية هي الجزء الأكثر إثارة للجدل في الفيلم، وهي ما يميزه كعمل فني استثنائي. بعد أن نرى بديعي يستلقي في القبر تحت شجرة الكرز، مع إضاءة البرق في السماء، تتلاشى الصورة إلى الظلام، مما يوحي بأنه ربما نفذ خطته. لكن فجأة، يتحول المشهد إلى لقطات تُظهر طاقم التصوير، والممثلين، وكيارستمي نفسه يوجه الفيلم. نرى المناظر الطبيعية نفسها، لكن في الربيع، مع ألوان زاهية وموسيقى مبهجة.

تفسيرات النهاية:
- كسر الوهم السينمائي: كيارستمي يذكّر الجمهور أن الفيلم ليس حقيقة، بل عمل فني. هذا الكسر المتعمد للواقعية يدفع المشاهد إلى التفكير في طبيعة السينما وعلاقتها بالحياة. بدلاً من تقديم إجابة واضحة (هل انتحر بديعي؟)، يترك كيارستمي السؤال مفتوحًا، مما يجبر الجمهور على مواجهة أفكارهم الخاصة حول الموت والحياة.
- رمزية التجدد: المشهد الأخير، مع المناظر الخضراء والموسيقى المبهجة، يمكن أن يُفسر كرمز لاستمرارية الحياة. بغض النظر عن مصير بديعي، الحياة تستمر، والطبيعة تتجدد. هذا يعزز فكرة عالم الحيوانات عن إيجاد الجمال في الأشياء البسيطة.
- دعوة للتأمل: من خلال إظهار طاقم التصوير، يدعو كيارستمي الجمهور إلى التفكير في دورهم كمشاهدين. هل نحن مجرد متفرجين على معاناة الآخرين؟ هل يمكننا أن نجد معنى في قصصهم؟ هذا المزج بين الواقع والخيال يجعل الفيلم تجربة فلسفية.
- عدم الحسم: النهاية المفتوحة تعكس فلسفة كيارستمي بأن الحياة لا تقدم إجابات نهائية. القرار الذي يتخذه بديعي (الحياة أو الموت) ليس جوهر الفيلم، بل الرحلة التي قادته إلى هذا القرار.
تقييم الفيلم
- النقاط القوية:
- العمق الفلسفي: الفيلم يطرح أسئلة عميقة دون تقديم إجابات سهلة، مما يجعله تجربة تأملية للمشاهد.
- الأسلوب البصري: التصوير البسيط والمؤثر يعزز من الجو العاطفي والفلسفي.
- النهاية المبتكرة: النهاية المفتوحة وكسر الوهم السينمائي تجعل الفيلم لا يُنسى.
- الأداء: أداء همايون إرشادي هادئ لكنه قوي، ينقل اليأس والصراع الداخلي ببراعة.
- النقاط الضعيفة:
- الإيقاع البطيء: قد يجد بعض المشاهدين أن الإيقاع البطيء واللقطات الطويلة صعبة المتابعة، خاصة إذا لم يكونوا معتادين على السينما التأملية.
- الغموض: غياب خلفية واضحة عن بديعي قد يزعج المشاهدين الذين يفضلون قصصًا أكثر وضوحًا.
- التأثير الثقافي: “طعم الكرز” يُعتبر من الأفلام التي ساهمت في تعريف العالم بالسينما الإيرانية. أسلوبه التأملي أثر على مخرجين آخرين، ونهايته أصبحت موضوع نقاش في الدراسات السينمائية.
السياق الثقافي والإخراجي
كيارستمي، المعروف بأسلوبه الشاعري، كان مهتمًا بمزج الواقع والخيال. في “طعم الكرز”، يستخدم ممثلين غير محترفين (مثل الجندي والطالب) لإضفاء طابع واقعي، بينما يظل الفيلم متجذرًا في التجريد الفلسفي. الفيلم يعكس أيضًا السياق الإيراني في التسعينيات، حيث كانت السينما تخضع لقيود رقابية صارمة، مما دفع كيارستمي إلى التركيز على القصص البسيطة ذات العمق الفلسفي.
الخلاصة
“طعم الكرز” هو تحفة سينمائية تجمع بين البساطة والعمق. من خلال قصة بديعي، يطرح كيارستمي أسئلة جوهرية عن الحياة والموت، ويدعو المشاهد إلى التفكير في قيمة اللحظات الصغيرة. النهاية المفتوحة وكسر الوهم السينمائي يجعلان الفيلم تجربة فريدة، ليست مجرد قصة، بل دعوة للتأمل في الوجود. إذا كنت من عشاق السينما الفنية أو مهتمًا بالفلسفة الوجودية، فهذا الفيلم سيترك أثرًا عميقًا.


أضف تعليق