فيلم نوار (بالفرنسية: Film Noir، أي “الفيلم الأسود”) هو أسلوب سينمائي هوليوودي يرتبط بأفلام الجريمة والدراما التي تتسم بالتشاؤم والدوافع المعقدة. يُعتبر عقدي الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين الفترة الذهبية لهذا الأسلوب، الذي يتميز بتصوير بالأبيض والأسود، مستوحى من التعبيرية الألمانية، وقصص مستمدة من أدب الجريمة الأمريكي القاسي (Hardboiled Fiction). صيغ مصطلح فيلم نوار عام 1946 على يد الناقد الفرنسي نينو فرانك، مستلهمًا من سلسلة الكتب الفرنسية Série Noire. لم يكن هذا المصطلح معترفًا به في هوليوود آنذاك، بل تم تعريفه لاحقًا من قبل المؤرخين والنقاد. يُثير فيلم نوار جدلًا مستمرًا حول ما إذا كان نوعًا سينمائيًا (genre) أم أسلوبًا (style). يتناول هذا المقال تعريف فيلم نوار، خصائصه، تأثيراته، وتطوره عبر العقود.
التعريف والجدل حول التصنيف

فيلم نوار يُعرف بأسلوبه البصري المظلم وقصصه التي تدور حول الجريمة، الخيانة، والغموض الأخلاقي. النقاد الفرنسيان ريمون بورد وإتيان شوميتون، في كتابهما بانوراما الفيلم نوار الأمريكي 1941-1953 (1955)، وصفاه بأنه “حلمي، غريب، شهواني، غامض، وقاسٍ”، لكنهما أشارا إلى أن ليس كل فيلم يحمل هذه السمات بنفس القدر. يرى البعض، مثل الناقد فوستر هيرش، أن فيلم نوار نوع سينمائي بسبب تماسك عناصره السردية والبصرية، بينما يعتبره آخرون، مثل آلان سيلفر، “ظاهرة” أو “دورة” سينمائية، نظرًا لتنوعه الكبير. يشمل فيلم نوار قصصًا متنوعة: محقق خاص (The Big Sleep)، ضابط شرطة (The Big Heat)، ملاكم متعب (The Set-Up)، أو مواطن عادي ينجرف إلى الجريمة (Gun Crazy). على الرغم من ارتباطه بالإنتاج الأمريكي، فقد ظهرت أفلام نوار عالميًا، وتطورت لاحقًا إلى نيو-نوار، التي تستعيد تقاليد فيلم نوار بوعي ذاتي.
التأثيرات السينمائية والأدبية
التأثيرات السينمائية
استلهم فيلم نوار من التعبيرية الألمانية (1910-1920)، التي استخدمت الإضاءة المتباينة والتصاميم المسرحية لخلق أجواء نفسية. هاجر مخرجون مثل فريتز لانغ وروبرت سيودماك إلى هوليوود هربًا من النازية، حاملين معهم هذا الأسلوب. أفلام مثل M (1931) لفريتز لانغ جمعت بين الجريمة والجماليات المظلمة. كما تأثر فيلم نوار بالواقعية الشعرية الفرنسية، التي ركزت على الأبطال المأساويين (Pépé le Moko، 1937)، والنيورياليزم الإيطالي، الذي ألهم تصوير المواقع الحقيقية (The Naked City، 1948). في هوليوود، ساهم مخرجون مثل أورسون ويلز (Citizen Kane، 1941) في تعقيد السرد عبر الفلاشباك والرواية الصوتية.
التأثيرات الأدبية
استمد فيلم نوار قصصه من أدب الجريمة الأمريكي القاسي، الذي ظهر في مجلات مثل Black Mask. كتاب مثل داشيل هاميت (The Maltese Falcon)، جيمس م. كين (Double Indemnity)، وريموند تشاندلر (The Big Sleep) قدموا أبطالًا معقدين وقصصًا تدور حول الخداع. كورنيل وولريتش، بقصصه القاتمة، كان مصدرًا لأفلام مثل Black Angel (1946). هذه الأعمال ركزت على التحقيقات، الانحرافات النفسية، والشخصيات المنبوذة، مما شكل أساس فيلم نوار.
الفترة الكلاسيكية (1940-1958)
تُعتبر الأربعينيات والخمسينيات الفترة الكلاسيكية لـ فيلم نوار. بدأت مع أفلام مثل Stranger on the Third Floor (1940)، الذي قدم أسلوبًا بصريًا مظلمًا، وتطورت مع أعمال بارزة مثل The Maltese Falcon (1941) وDouble Indemnity (1944). غالبًا ما كانت هذه الأفلام منخفضة الميزانية (B-movies)، مما سمح بحرية إبداعية. استخدم المخرجون إضاءة منخفضة (low-key lighting)، تصويرًا ليليًا، وفلاشباك معقدة. تناولت الأفلام مواضيع مثل الجريمة، الخيانة، والنساء المغريات (femme fatale)، مثل باربرا ستانويك في Double Indemnity. بحلول الخمسينيات، أصبحت الأفلام أكثر تركيزًا على الجوانب النفسية، كما في Kiss Me Deadly (1955). يُعتبر Touch of Evil (1958) لأورسون ويلز آخر الأفلام الكلاسيكية البارزة.
المخرجون وصناعة فيلم نوار
شارك مخرجون بارزون في فيلم نوار، مثل جون هيوستن (The Maltese Falcon)، بيلي وايلدر (Sunset Boulevard)، وأوتو بريمينغر (Laura). أنتجت استوديوهات كبرى مثل 20th Century-Fox أفلامًا عالية الميزانية، بينما أنتجت استوديوهات صغيرة مثل Monogram أفلامًا منخفضة التكلفة. مخرجون مثل روبرت سيودماك وجاك تورنور برعوا في خلق أجواء مظلمة، بينما ساهم مصورون مثل جون ألتون في الإضاءة المتباينة (The Big Combo). الممثلون، مثل همفري بوغارت (سام سبيد) وريتا هايورث (Gilda)، أصبحوا رموزًا للأسلوب.
فيلم نوار خارج الولايات المتحدة
على الرغم من ارتباط فيلم نوار بالولايات المتحدة، فقد ظهر عالميًا. في فرنسا، أنتج جول داسين Rififi (1955)، وجان-بيير ملفيل أفلامًا مثل Le Samouraï (1967). في المكسيك، ازدهر فيلم نوار بين 1946-1952. في اليابان، قدم أكيرا كوروساوا أفلامًا مثل Stray Dog (1949). هذه الأفلام جمعت بين التقاليد المحلية وجماليات فيلم نوار، مما أثرى النوع.
نيو-نوار وتطور الأسلوب
بدأ نيو-نوار في الستينيات، مع أفلام تستعيد تقاليد فيلم نوار بوعي. قدمت أفلام مثل À bout de souffle (1960) لجان-لوك غودار وChinatown (1974) لرومان بولانسكي رؤى جديدة. في السبعينيات، مزج مارتن سكورسيزي (Taxi Driver) وروبرت ألتمان (The Long Goodbye) التشاؤم مع التعليقات الاجتماعية. في الثمانينيات والتسعينيات، برزت أفلام مثل Blade Runner (1982) وPulp Fiction (1994) لكوينتن تارانتينو، التي استخدمت ألوانًا زاهية وأساليب معاصرة.
نيون-نوار
ظهر نيون-نوار في السبعينيات والثمانينيات، مع التركيز على الإضاءة الملونة (neon lighting) والنقد الاجتماعي. أفلام مثل Taxi Driver، Blue Velvet (1986) لديفيد لينش، وBlade Runner استخدمت إضاءة زاهية لتصوير الاغتراب والهبوط الحضري. ينتقد نيون-نوار الرأسمالية، الاستهلاكية، والهوية في عالم متطور تقنيًا، مع مشاهد في أماكن مثل النوادي الليلية والكازينوهات.
فيلم نوار العلمي
تطور فيلم نوار ليشمل الخيال العلمي، كما في Blade Runner، الذي قدم لوس أنجلوس بائسة مستقبلية. أفلام مثل Alphaville (1965) وMinority Report (2002) جمعت بين التحقيقات والتكنولوجيا. في اليابان، قدمت أفلام الأنمي مثل Ghost in the Shell (1995) رؤية نوار مستقبلية.
فيلم نوار الريفي
ظهر فيلم نوار الريفي (Rural Noir أو Outback Noir) في الولايات المتحدة وأستراليا، مع التركيز على الجريمة في المناطق الريفية. أفلام مثل No Country for Old Men (الولايات المتحدة) وThe Dry (أستراليا) تناولت قضايا مثل العنصرية وفقدان الأرض. في أستراليا، يبرز المخرج إيفان سين بأفلام مثل Limbo (2023)، التي تستكشف قضايا السكان الأصليين.
السخرية والمحاكاة
سُخر من فيلم نوار في أفلام مثل Wonder Man (1945) وDead Men Don’t Wear Plaid (1982). قدمت أفلام مثل Taxi Driver وBlood Simple محاكاة ساخرة مع طابع قاتم. في التلفزيون، سخرت مسلسلات مثل Sledge Hammer! وSesame Street من تقاليد فيلم نوار.
الخصائص المميزة
الأسلوب البصري
يتميز فيلم نوار بإضاءة منخفضة (chiaroscuro)، تصوير مائل (Dutch angles)، ومشاهد ليلية. يستخدم الظلال، المرايا، والزجاج المشوه لخلق شعور بالقلق. على الرغم من ارتباطه بالأبيض والأسود، فإن أفلام ملونة مثل Niagara (1953) تُعتبر نوار.
السرد والرواية
تتسم الأفلام بحبكات معقدة، فلاشباك، ورواية صوتية، غالبًا من منظور البطل. تجارب مثل Lady in the Lake (1947)، التي صُورت من وجهة نظر البطل، أظهرت الابتكار السردي.
الشخصيات والإعدادات
تدور القصص حول أبطال معيبين، مثل المحققين الخاصين، النساء المغريات، والمجرمين. المدن الكبرى، مثل لوس أنجلوس، تُصور كمتاهات. الحانات، النوادي، والمصانع أماكن شائعة للأحداث.
الرؤية العالمية والأخلاق
يُعرف فيلم نوار بالتشاؤم، حيث يصور عالمًا فاسدًا ومصيرًا قاسيًا. الشخصيات غالبًا محاصرة، والنهايات نادرًا ما تكون سعيدة. يعكس الفيلم قلق ما بعد الحرب العالمية الثانية والخوف من الفساد.
الموسيقى
تتميز الموسيقى التصويرية بالأوركسترا مع نغمات متباينة، كما في أعمال ماكس شتاينر وميكلوس روزا. في نيو-نوار، استخدمت موسيقى الجاز، كما في Taxi Driver.
الخاتمة
فيلم نوار هو أكثر من مجرد نوع سينمائي؛ إنه تعبير عن القلق الإنساني والصراع الأخلاقي. من الفترة الكلاسيكية إلى نيو-نوار ونيون-نوار، استمر هذا الأسلوب في التطور، معبرًا عن التحديات الاجتماعية والثقافية. سواء في شوارع لوس أنجلوس الممطرة أو صحارى فيلم نوار الريفي، يظل فيلم نوار شاهدًا على قدرة السينما على استكشاف الظلام داخل النفس البشرية.


أضف تعليق