في الظل الذي يخلفه ضوء الكاميرا، يقف بعض المخرجين وهم يحملون قلمًا بدل العدسة. هؤلاء الفنانون لا يكتفون بصياغة الصور، بل يسعون لكتابة أفكارهم، تجاربهم، ورؤاهم بلغة الكلمات. عبر الكتب، يبوحون بما لا يُقال على الشاشة، يشرحون، يتأملون، وأحيانًا ينتقدون. إليك أبرز من جمع بين الإخراج والكتابة، وكتبهم التي أصبحت مراجع في عالم السينما.
1. كوينتن تارانتينو – تخمينات السينما (Cinema Speculation)
صدر هذا الكتاب عام 2022، وهو مزيج بين السيرة الذاتية والنقد السينمائي. يتناول فيه تارانتينو أفلام السبعينيات التي شكلت ذائقته، مثل Taxi Driver وDirty Harry. لكن الأهم هو الأسلوب: يكتب كما يتحدث، بعفوية، جرأة، وعمق. يكشف عن الكواليس التي لا تظهر في الأفلام، ويقدّم تحليلاً شخصيًا لا أكاديميًا. هو كتاب يعكس كيف يفكر تارانتينو كمشاهد ومخرج في آنٍ واحد.
2. أندريه تاركوفسكي – النحت في الزمن (Sculpting in Time)
يُعد هذا الكتاب من أعمق ما كُتب عن الفن السينمائي. نشره تاركوفسكي عام 1985، وهو تأمل فلسفي في طبيعة السينما ومعنى الصورة والزمن. يتحدث عن أفلامه مثل المرآة والضحية والحنين، ويشرح فيها كيف يرى السينما كفن روحي يتجاوز الترفيه. يعتبر الزمن هو “المادة الخام” للسينما، ويرى أن المخرج “ينحت” هذا الزمن في شريط الفيلم. الكتاب مليء بالاقتباسات والشهادات، ويناسب من يبحث عن السينما كفن عميق لا كتسلية.
3. سيدني لوميت – صناعة الأفلام (Making Movies)
هذا الكتاب عملي بامتياز، يصلح كمقرر دراسي. نشره لوميت عام 1995، وهو بمثابة رحلة داخل عقل مخرج محترف. يشرح فيه كل خطوة في صناعة الفيلم: من قراءة السيناريو إلى اختيار العدسات، من التعامل مع الممثلين إلى المونتاج. ما يميز الكتاب أنه مليء بتجارب واقعية من أفلامه مثل 12 Angry Men وNetwork. يقدم خلاصة خبرة 40 سنة من العمل، بلغة بسيطة وواضحة.
4. ديفيد لينش – الإمساك بالسمكة الكبيرة (Catching the Big Fish)
كتاب مختلف تمامًا، يشبه أفلام لينش الغامضة. يتحدث فيه عن علاقة التأمل التجاوزي (Transcendental Meditation) بالإبداع، ويشارك أفكاره حول الفن، الصوت، الصورة، والأحلام. يحتوي على فصول قصيرة جدًا، بعضها لا يتجاوز فقرتين، لكنها تحمل أفكارًا عميقة. يقول لينش: “الأفكار مثل الأسماك… الكبيرة منها تحتاج إلى عمق.” كتاب ملهم لمن يبحث عن الجانب الغامض والتجريدي في الفن.
5. مارتن سكورسيزي – رحلات في السينما والذاكرة (Scorsese on Scorsese)
رغم أن سكورسيزي لم يكتب كتابًا واحدًا متكاملًا، إلا أن مقابلاته ومقالاته جُمعت في كتب، أشهرها Scorsese on Scorsese. في هذه الصفحات، يتحدث عن أفلامه من Taxi Driver إلى Goodfellas، ويكشف عن خلفياتها النفسية والاجتماعية. كما يتناول تأثره بأفلام كلاسيكية، ويدافع عن السينما كمجال للفكر والهوية. أسلوبه عاطفي، مشبع بالحب الصادق للفن السابع.
لماذا يكتب المخرجون؟
- لتفسير أفكارهم التي قد لا تظهر في الفيلم.
- لتوثيق تجربتهم، وكأنهم يسجلون ذاكرة بصرية بالكلمات.
- للتأمل، إذ تمنحهم الكتابة وقفة من سرعة الإنتاج والتصوير.
- لتعليم الآخرين، عبر نقل تجربتهم وتفاصيل لم تُروَ من قبل.
هل نقرأ لنفهم أفلامهم؟
نعم. قراءة كتب هؤلاء المخرجين تعمّق فهمنا لأعمالهم، وتكشف كيف يتشكل الفيلم داخل الذهن قبل أن يصبح صورة. حين تقرأ النحت في الزمن، ترى المرآة بطريقة مختلفة. وحين تتصفح صناعة الأفلام، تدرك دقة مشهد في 12 Angry Men.
خاتمة:
المخرج عندما يكتب، لا يتخلى عن عدسته، بل يستبدلها بكلمات توازي الصورة. هذه الكتب ليست فقط لعشاق القراءة، بل لكل من يريد فهم السينما من داخل رأس المخرج. هي كنوز فكرية، تكشف الجانب الذي لا تلتقطه الكاميرا.


أضف تعليق