غونزاليس: سينما تحكي الإنسان بلغة الصورة والصمت

في خريف 2001، دعا المنتج الفرنسي ألين بريغاندا 11 مخرجًا عالميًا ليصنع كل منهم فيلمًا قصيرًا يعبّر عن انطباعه عن هجمات 11 سبتمبر. المدة؟ 11 دقيقة و9 ثوانٍ وفريم واحد، لا أكثر ولا أقل. النتيجة كانت مجموعة أفلام تحت عنوان 11′09”01 – September 11، لكن فيلمًا واحدًا خطف الأنظار بجرأته: عمل المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليس إناريتو.

شاشة سوداء تحكي المأساة

تخيّل أنك تشاهد فيلمًا بلا صور، فقط شاشة سوداء. لا ترى شيئًا، لكنك تسمع كل شيء: صراخ الناس المذعورين، ضجيج المذيعين، وصوت انهيار برجي التجارة العالمي. هكذا اختار غونزاليس أن يروي مأساة سبتمبر. في اللحظة الأخيرة، تنقلب الشاشة إلى بياض ساطع، مصحوبًا بعبارة: هل نور الله يهدينا أم يعمينا؟، مع أصوات أطفال يتلوون القرآن وموسيقى تلامس الروح. هذا ليس مجرد فيلم، بل تجربة فنية تتحدى المألوف، تجعلك تفكر وتشعر بعمق. هنا يكمن سر عبقرية غونزاليس: القدرة على تحويل المأساة إلى تأمل جمالي بأسلوب حداثي ينبض بالإبداع.

بابل: تحفة سينمائية تكسر القوالب

في 2006، عاد غونزاليس بفيلم بابل، ليؤكد أنه ليس مجرد مخرج، بل فنان يعيد صياغة لغة السينما. الفيلم، الذي حصد جائزة أفضل مخرج في مهرجان كان وجائزة أفضل فيلم في غولدن غلوب، يحكي أربع قصص متشابكة تدور في المغرب، أمريكا، المكسيك، واليابان. لكن بابل ليس مجرد قصص، بل لوحة إنسانية تتجاوز الحدود الجغرافية.

  • في المغرب: عائلة فقيرة تشتري بندقية لحماية مواشيها، لكن ابنيها يستخدمانها بطريقة تتحول إلى كارثة.
  • في أمريكا والمغرب: زوجان أمريكيان (براد بيت وكيت بلانشيت) يواجهان محنة أثناء رحلة سياحية.
  • في المكسيك: خادمة مكسيكية تأخذ طفلي عائلة أمريكية إلى زفاف ابنها، لكن القرار يقودها إلى مأزق.
  • في اليابان: فتاة صماء بكماء تعيش عزلة عاطفية، تبحث عن الحب في عالم ينبذها.

غونزاليس لا يكتفي بالسرد، بل يستخدم الصوت، الصورة، وحتى الصمت كأدوات تعبير. في المغرب، يتبنى أسلوبًا واقعيًا يعكس قسوة الصحراء. في اليابان، يتحرر من الواقع، يعبث بالألوان والإضاءة ليعبر عن عالم الفتاة الداخلي. الصمت نفسه يصبح شخصية في الفيلم، يحكي ما لا تستطيع الكلمات قوله.

لماذا بابل؟

على السطح، قد يبدو الفيلم مجرد قصص متشابكة، لكن غونزاليس يحيك فكرة واحدة: أنا والآخر. كل قصة تعكس صراعًا بين الأفراد والمجتمعات بسبب الأحكام المسبقة. الراعي المغربي يُتهم بالإرهاب، الخادمة المكسيكية تواجه التوجس على الحدود، الزوجان الأمريكيان يعانيان من سوء الفهم الثقافي. لكن القصة الأكثر تأثيرًا هي الفتاة اليابانية. عزلتها ليست فقط بسبب إعاقتها، بل بسبب نظرة العالم لها كـ”أخرى”. هنا يكمن جوهر بابل: معاناة الإنسان عندما يفشل في فهم الآخر، سواء كان من ثقافة مختلفة أو حتى من نفس المجتمع.

غونزاليس: صانع سينما إنسانية

منذ فيلمه الأول أموريس بيروس (2000)، مرورًا بـ21 غرامًا (2003)، وصولًا إلى بابل، أثبت غونزاليس أنه ليس مجرد مخرج، بل فيلسوف يستخدم الكاميرا ليحكي قصة الإنسان. أسلوبه في كسر السرد التقليدي، ومزج القصص المتعددة، وتوظيف الجماليات البصرية والسمعية، جعله واحدًا من أعظم المخرجين المعاصرين. بابل ليست مجرد فيلم، بل مرآة تعكس ألمنا وآمالنا، وتذكرنا أننا، منذ أيام برج بابل، لا نزال نبحث عن لغة مشتركة لفهم بعضنا بعضًا.

أضف تعليق