Django Unchained 2012

كوينتن تارانتينو، سيد السينما الحديثة الذي أبهرنا بأفلام مثل Pulp Fiction، Kill Bill، وInglourious Basterds، يعود في 2012 بفيلم Django Unchained، وهو تحفة سينمائية تُعدّ واحدة من أكثر أعماله طموحًا وإثارة للجدل. هذا الفيلم ليس مجرد ويسترن تقليدي، بل هو إعادة تخيّل جريئة للغرب الأمريكي في حقبة ما قبل الحرب الأهلية، حيث يمزج تارانتينو بين السباغيتي ويسترن، قصص الانتقام، والتعليق الاجتماعي الحاد على العبودية. Django Unchained هو ملحمة دموية عن الحرية، العدالة، والحب، مغلفة بأسلوب تارانتينو المميز: حوارات نارية، عنف مبالغ فيه، موسيقى تخطف الأنفاس، وشخصيات لا تُنسى.

الفيلم يأخذنا إلى عام 1858، حيث يتحرر العبد جانغو (جيمي فوكس) على يد صائد الجوائز الألماني الدكتور كينغ شولتز (كريستوف فالتز)، ليبدأ الاثنان رحلة مليئة بالمخاطر لتحرير زوجة جانغو، برومهيلدا (كيري واشنطن)، من قبضة مالك مزرعة وحشي يُدعى كالفن كاندي (ليوناردو دي كابريو). تارانتينو لا يكتفي برواية قصة، بل يبني عالمًا سينمائيًا يحتفي بالسينما – خاصة أفلام الويسترن الإيطالية – بينما يوجه نقدًا لاذعًا للعبودية والعنصرية. السؤال هنا: كيف استطاع تارانتينو أن يأخذ فترة مظلمة من التاريخ الأمريكي ويحولها إلى ملحمة ممتعة، مؤثرة، ومليئة بالتشويق؟ دعونا نغوص في هذا العمل الأسطوري ونكتشف لماذا يُعد واحدًا من أعظم أفلام تارانتينو.

Django Unchained هو فيلم طويل (165 دقيقة)، لكنه لا يشعرك بالملل للحظة واحدة، بفضل سيناريو تارانتينو الذكي والمتعدد الطبقات. القصة تبدأ عندما يحرر الدكتور كينغ شولتز، صائد جوائز ألماني غريب الأطوار، العبد جانغو لمساعدته في تعقب الأخوة بريتل، وهم مجرمون مطلوبون يعرفهم جانغو. في مقابل مساعدته، يعد شولتز بمساعدة جانغو في تحرير زوجته برومهيلدا، التي تُباع إلى مزرعة كاندي لاند المملوكة لكالفن كاندي، وهو مالك عبيد سادي ومتعجرف. من هنا، تنطلق رحلة مليئة بالمؤامرات، المواجهات، والدم.

السيناريو يمزج بين عدة أنواع: الويسترن، قصص الانتقام، الدراما الاجتماعية، وحتى الكوميديا السوداء. تارانتينو يستخدم السرد غير الخطي بشكل خفيف هنا، حيث يتخلل الفيلم فلاشباكات تروي قصة جانغو وبرومهيلدا، مما يضيف عمقًا عاطفيًا لرحلته. الحوارات هي العمود الفقري للفيلم، وتارانتينو في أفضل حالاته. على سبيل المثال، مشهد العشاء في كاندي لاند، حيث يحاول جانغو وشولتز خداع كاندي، هو تحفة من التوتر النفسي. الحوارات تمتزج بين السخرية (مثل نقاش شولتز حول ديماس) والتهديد (مثل كلمات كاندي عن العبودية)، مما يجعل كل جملة تحمل وزنًا.

السيناريو أيضًا جريء في تناوله للعبودية. تارانتينو لا يتجنب وحشية تلك الحقبة، بل يظهرها بتفاصيل مروعة: الجلد، المعاملة اللاإنسانية، والعنصرية الممنهجة. لكنه يضيف لمسة تمكينية من خلال جانغو، الذي يتحول من عبد إلى بطل يتحدى النظام. هذا الخيار أثار جدلاً، حيث اتهم البعض تارانتينو بالتعامل مع العبودية بأسلوب “مبالغ فيه” أو “تجاري”، لكن آخرين رأوا أن الفيلم يقدم نقدًا قويًا من خلال عدسة الترفيه.

الفيلم مليء بالإشارات إلى السينما. العنوان مستوحى من فيلم الويسترن الإيطالي Django (1966) لسيرجيو كوربوتشي، وحتى فرانكو نيرو، نجم الفيلم الأصلي، يظهر في مشهد صغير. تارانتينو يحتفي بأفلام السباغيتي ويسترن، لكنه يضيف لمسة حديثة تجعل القصة ملائمة لجمهور القرن الحادي والعشرين.

تارانتينو كمخرج في Django Unchained يظهر سيطرة مذهلة على الرؤية البصرية والسردية. الفيلم هو تحية واضحة للسباغيتي ويسترن، مع لقطات واسعة للمناظر الطبيعية، مواجهات درامية، وموسيقى ملحمية. لكنه أيضًا يحمل بصمة تارانتينو: العنف المسرحي، الفكاهة السوداء، والتفاصيل الدقيقة التي تجعل كل مشهد لا يُنسى.

المشهد الافتتاحي، حيث يحرر شولتز جانغو وسط الصحراء، يحدد نغمة الفيلم: مزيج من التوتر، الفكاهة، والعنف. تارانتينو يستخدم التصوير، بقيادة روبرت ريتشاردسون، لالتقاط جمال المناظر الطبيعية ووحشية العبودية في نفس الوقت. اللقطات الطويلة في مشاهد المواجهات، مثل إطلاق النار في كاندي لاند، تُظهر مهارة تارانتينو في إدارة الإيقاع.

أحد أبرز مشاهد الفيلم هو معركة كاندي لاند، حيث يتحول جانغو إلى إعصار من الانتقام. تارانتينو يصور العنف بأسلوب مبالغ فيه، حيث تتطاير الدماء كنوافير، مستوحى من أفلام الويسترن والساموراي. لكن هذا العنف ليس عبثيًا؛ إنه تعبير عن غضب جانغو وتحرره. مشهد آخر لا يُنسى هو هجوم الكو كلوكس كلان، الذي يتحول إلى كوميديا سوداء بسبب نقاشهم السخيف حول أقنعتهم، مما يُظهر قدرة تارانتينو على تحويل لحظة مظلمة إلى فكاهة.

تارانتينو يلعب بالألوان والإضاءة بذكاء. مشاهد الصحراء مشبعة بألوان دافئة (الأصفر والبني)، بينما مشاهد كاندي لاند مظلمة وكئيبة، تعكس الفساد الأخلاقي. حتى الفلاشباكات، التي تُصور بحيوية، تضيف طابعًا رومانسيًا لقصة حب جانغو وبرومهيلدا.

Django Unchained مليء بالشخصيات اللافتة، وكل منها تُقدم بأداء استثنائي. جانغو، الذي يؤدي دوره جيمي فوكس، هو بطل الفيلم وقلب القصة. فوكس يجسد تحول جانغو من عبد مكسور إلى محارب لا يرحم ببراعة. أداؤه في مشاهد العنف مليء بالغضب، بينما لحظاته مع برومهيلدا تكشف عن إنسانيته وحبه. مشهد عودته إلى كاندي لاند، وهو يرتدي زيًا أنيقًا ويتصرف بثقة، هو لحظة تمكين تجعلك تصفق له.

الدكتور كينغ شولتز، الذي يؤدي دوره كريستوف فالتز، هو الشريك المثالي لجانغو. فالتز، الذي فاز بجائزة الأوسكار لأفضل ممثل مساعد عن هذا الدور، يقدم أداءً ساحرًا ومعقدًا. شولتز هو رجل أخلاقي في ظاهره، لكنه لا يتردد في استخدام العنف لتحقيق أهدافه. أداؤه في مشهد العشاء، حيث يفقد أعصابه أمام كاندي، هو من أقوى لحظات الفيلم.

كالفن كاندي، الذي يؤدي دوره ليوناردو دي كابريو، هو شرير لا يُنسى. دي كابريو يغوص في الدور بعمق، مقدمًا شخصية سادية، متعجرفة، ومثيرة للاشمئزاز. أداؤه في مشهد العشاء، حيث يحطم كأسًا ويجرح يده (حادث حقيقي استمر في التمثيل رغم الدم)، هو دليل على التزامه. ستيفن، الذي يؤدي دوره صامويل إل جاكسون، هو شخصية معقدة: خادم مخلص لكاندي، لكنه يمتلك ذكاءً شريرًا. جاكسون يقدم أداءً مذهلاً، حيث يجعلك تكره ستيفن وتتعاطف معه في نفس الوقت.

برومهيلدا، التي تؤدي دورها كيري واشنطن، هي القلب العاطفي للفيلم. رغم أن دورها محدود مقارنة بالشخصيات الأخرى، إلا أن واشنطن تضيف عمقًا للشخصية من خلال تعبيراتها وصمتها. شخصيات ثانوية مثل بيلي كراش (والتون غوغينز) تضيف فكاهة سوداء ووحشية للقصة.

الموسيقى في Django Unchained هي عنصر حيوي، وتارانتينو يختار مزيجًا مذهلاً من المقطوعات القديمة والحديثة. مقطوعات إنيو موريكوني، مثل “The Braying Mule”، تضيف طابعًا ملحميًا لمشاهد الويسترن. أغنية “Django” للويس بكالوف وروكي روبرتس، المستوحاة من الفيلم الأصلي، تُستخدم في الافتتاحية لتحديد النغمة.

تارانتينو يفاجئنا باستخدام موسيقى حديثة، مثل أغنية “100 Black Coffins” لريك روس، التي تضيف طاقة معاصرة لمشاهد الحركة. أغنية “Freedom” لأنتوني هاميلتون وإلينور ميلز تُستخدم في لحظة عاطفية، تعكس رحلة جانغو نحو الحرية. حتى أغنية “Who Did That to You?” لجون ليجند تضيف لمسة درامية للذروة. تارانتينو يعرف كيف يجعل كل نغمة جزءًا من السرد، بحيث تتذكر المشهد عندما تسمع الأغنية.

Django Unchained مليء بالرموز والإشارات إلى السينما والتاريخ. الفيلم مستوحى بشكل واضح من أفلام السباغيتي ويسترن، خاصة أعمال سيرجيو ليوني وسيرجيو كوربوتشي. مشهد المواجهة النهائية في كاندي لاند يذكّر بمواجهات ليوني الملحمية. تارانتينو يحتفي أيضًا بأفلام الـ”Blaxploitation” من السبعينيات، حيث يقدم جانغو كبطل أسود يتحدى النظام العنصري.

الفيلم يتناول موضوعات عميقة مثل العبودية، العنصرية، والحرية. جانغو يرمز إلى المقاومة، بينما كاندي وستيفن يمثلان الفساد الأخلاقي لنظام العبودية. برومهيلدا، التي تحمل اسمًا مستوحى من الأساطير الجرمانية، ترمز إلى الأمل والحب وسط الظلم. تارانتينو يستخدم الفيلم لإعادة كتابة التاريخ، مقدمًا نهاية تمكينية تجعل الجمهور يشعر بالرضا، حتى لو كانت غير واقعية.

الفيلم أثار جدلاً بسبب استخدامه لكلمة العنصرية “N-word” (أكثر من 100 مرة) وتصويره للعنف. لكن تارانتينو دافع عن خياراته، مؤكدًا أن الفيلم يعكس وحشية تلك الحقبة بصدق، بينما يمنح الجمهور الأسود بطلًا ينتصر على الظلم.

التصوير السينمائي، بقيادة روبرت ريتشاردسون، هو تحفة بصرية. اللقطات الواسعة للصحراء والغابات تلتقط جمال الغرب الأمريكي، بينما اللقطات الضيقة في كاندي لاند تعكس التوتر. المونتاج، بإشراف فريد راسكين، يحافظ على إيقاع متوازن بين الحركة والدراما. تارانتينو يستخدم الفلاشباكات واللقطات السينمائية، مثل التكبير المفاجئ (zoom) المستوحى من أفلام السباغيتي ويسترن، لتعزيز الأجواء.

الإخراج الفني، بإشراف جي. مايكل ريفا، يعيد خلق الجنوب الأمريكي بتفاصيل دقيقة، من مزارع القطن إلى قصور العبيد. الأزياء، مثل زي جانغو الأزرق المبالغ فيه أو بدلة كاندي الفاخرة، تعكس شخصياتهم. الكوريغرافيا في مشاهد العنف، خاصة معركة كاندي لاند، ممتعة ومسرحية، مع دماء تتطاير بأسلوب تارانتينو المميز.

عند إصدار Django Unchained في ديسمبر 2012، حصل على إشادة نقدية واسعة، مع تقييم 87% على Rotten Tomatoes بناءً على 297 مراجعة. حقق الفيلم إيرادات عالمية بلغت حوالي 425 مليون دولار مقابل ميزانية 100 مليون دولار، مما جعله أكثر أفلام تارانتينو نجاحًا تجاريًا حتى ذلك الوقت. النقاد أشادوا بأداءات فوكس، فالتز، ودي كابريو، وحوارات تارانتينو، لكن البعض انتقد طول الفيلم واستخدامه للعنف واللغة العنصرية.

  • روجر إيبرت: “تارانتينو يصنع ويسترن ملحمي يمزج بين الفكاهة والوحشية. إنه فيلم عن الحرية يجعلك تشعر بالانتصار.”
  • بيتر ترافرز: “Django Unchained هو تارانتينو في قمته: جريء، مضحك، ومؤثر. جيمي فوكس هو بطل لا يُنسى.”
  • ليزا شوارتزباوم: “ليوناردو دي كابريو يسرق الأضواء كشرير مقزز، لكن قلب الفيلم هو قصة حب جانغو وبرومهيلدا.”
  • جيفري أندرسون: “تارانتينو يأخذ موضوعًا مظلمًا ويحوله إلى ترفيه سينمائي خالص. الفيلم طويل، لكنه يستحق كل دقيقة.”
  • ريتشارد كورليس: “Django Unchained هو احتفال بالسينما وتعليق على التاريخ. تارانتينو لا يخاف من المخاطرة.”

الفيلم حصل على 5 ترشيحات للأوسكار، بما في ذلك أفضل فيلم، وفاز بجائزتين: أفضل سيناريو أصلي لتارانتينو وأفضل ممثل مساعد لفالتز. كما فاز بجوائز Golden Globe وBAFTA.

تأثير الفيلم وإرثه

Django Unchained أعاد إحياء الاهتمام بأفلام الويسترن الحديثة، وألهم نقاشات حول العبودية والعنصرية في السينما. أداءات فوكس، فالتز، ودي كابريو أصبحت أيقونية، وشخصية جانغو تحولت إلى رمز للتمكين. الفيلم أثر على أعمال أخرى، مثل The Harder They Fall، وألهم أزياء وموسيقى في الثقافة الشعبية.

الفيلم أيضًا عزز مكانة تارانتينو كمخرج لا يخشى الجدل. رغم الانتقادات، أشاد الكثيرون بقدرته على تقديم قصة تاريخية بأسلوب ترفيهي دون التضحية بالنقد الاجتماعي. Django Unchained يظل واحدًا من أكثر أفلامه تأثيرًا، حيث يجمع بين الترفيه والتفكير العميق.

Django Unchained هو فيلم يجمع بين القلب والعقل، الدم والضحك، الحب والانتقام. تارانتينو يأخذنا في رحلة عبر الغرب الأمريكي، حيث يتحدى الظلم بأسلوب جريء وممتع. جانغو ليس مجرد بطل، بل رمز للمقاومة والحرية. الحوارات، الموسيقى، والتصوير يجتمعون لخلق تجربة سينمائية لا تُنسى. النهاية، التي تمنح جانغو انتصارًا ملحميًا، هي واحدة من أكثر اللحظات إرضاءً في تاريخ السينما.

شخصيًا، شاهدت الفيلم أكثر من 25 مرة، وفي كل مرة أشعر بنفس الحماس. مشهد معركة كاندي لاند يجعل قلبي يتسارع، ومونولوج شولتز عن ديماس يجعلني أضحك، ولحظة لقاء جانغو وبرومهيلدا تجعلني أبكي. Django Unchained هو فيلم يجعلك تحب السينما، يجعلك تؤمن بقوة القصص، ويثبت أن تارانتينو هو سيد هذا الفن. إذا لم تشاهده، فافعل ذلك الآن، واستعد لرحلة دموية، مضحكة، ومؤثرة. وإذا شاهدته، أخبرني: ما هو مشهدك المفضل؟ هل هو عودة جانغو إلى كاندي لاند، أم لحظة تحرره الأولى؟

  • تارانتينو كتب السيناريو خلال عامين، مستوحى من أفلام السباغيتي ويسترن وأفلام الـ”Blaxploitation”.
  • جيمي فوكس تعلم ركوب الخيل واستخدام السلاح خصيصًا للدور، واستخدم حصانه الخاص في الفيلم.
  • ليوناردو دي كابريو أصيب فعليًا في مشهد العشاء، لكنه استمر في التمثيل، مما أذهل الطاقم.
  • صامويل إل جاكسون ساعد في تطوير شخصية ستيفن، مضيفًا طبقات من التعقيد.
  • الفيلم يحتوي على 66 حالة قتل، مما يجعله واحدًا من أكثر أفلام تارانتينو دموية.
  • تارانتينو ظهر في الفيلم بدور صغير كأحد رجال عصابة ليتل، مرتديًا قناعًا.
  • أغنية “100 Black Coffins” كتبها ريك روس خصيصًا للفيلم بعد قراءة السيناريو.
  • الفيلم مُنع في الصين بسبب العنف، لكنه عُرض لاحقًا بعد تعديلات.
  • زي جانغو الأزرق مستوحى من لوحة The Blue Boy لتوماس غينزبورو.
  • تارانتينو اختار كريستوف فالتز بعد نجاحه في Inglourious Basterds، وكتب دور شولتز له.

أضف تعليق