The Hateful Eight 2015

كوينتن تارانتينو، العبقري الذي أعاد تعريف السينما بأفلام مثل Pulp Fiction، Django Unchained، وInglourious Basterds، يعود في 2015 بفيلم The Hateful Eight، وهو تحفة ويسترن غامضة تُعدّ واحدة من أكثر أعماله نضجًا وإبداعًا. هذا الفيلم ليس مجرد قصة عن الغرب المتوحش، بل هو دراسة نفسية عميقة للخيانة، الكراهية، والطبيعة البشرية، مغلفة بأسلوب تارانتينو المميز: حوارات نارية، توتر متصاعد، عنف دموي، وموسيقى تخطف الأنفاس. The Hateful Eight هو لغز سينمائي يُشبه مسرحية أغاثا كريستي، لكنه ملطخ بدماء الويسترن ومزين بسخرية تارانتينو.

الفيلم يأخذنا إلى وايومنغ بعد الحرب الأهلية الأمريكية، حيث تجبر عاصفة ثلجية ثمانية غرباء على الاحتماء في نزل جبلي معزول يُدعى “مينيز هابرداشري”. هؤلاء الأشخاص – صيادو جوائز، مجرمون، وأشخاص غامضون – يحملون أسرارًا ونوايا خبيثة، وسرعان ما يتحول النزل إلى مسرح للخداع والقتل. تارانتينو ينسج قصة تشبه لعبة شطرنج، حيث كل شخصية هي قطعة على اللوح، والثقة هي الشيء الوحيد الغائب. السؤال هنا: كيف استطاع تارانتينو أن يحول مساحة ضيقة إلى ملحمة سينمائية مليئة بالتشويق والدراما؟ دعونا نغوص في هذا العمل الأسطوري ونكتشف لماذا يُعد The Hateful Eight تحفة تارانتينو الشتوية.

The Hateful Eight هو فيلم طويل (187 دقيقة في نسخة Roadshow)، لكنه يمسك بك من أول لقطة إلى الأخيرة بفضل سيناريو تارانتينو المتقن. القصة مقسمة إلى ستة فصول، كل منها يكشف طبقة جديدة من اللغز. الفيلم يبدأ بصياد الجوائز جون روث (كورت راسل)، الملقب بـ”الجلاد”، وهو ينقل السجينة دايزي دوميرغ (جينيفر جيسون لي) إلى بلدة ريد روك لإعدامها. في طريقه، يلتقي بالرائد ماركيز وارن (صامويل إل جاكسون)، صياد جوائز أسود وجندي سابق في الاتحاد، وكريس مانيكس (والتون غوغينز)، الذي يدّعي أنه شريف ريد روك الجديد. عاصفة ثلجية تجبرهم على الاحتماء في نزل مينيز، حيث يلتقون بأربعة غرباء آخرين: بوب المكسيكي (ديميان بيشير)، أوزوالدو موبراي (تيم روث)، جو غيج (مايكل مادسن)، وسانفورد سميثرز (بروس ديرن)، وهو جنرال كونفدرالي عجوز.

السيناريو يعتمد على بناء التوتر النفسي. تارانتينو يضع هذه الشخصيات الثمانية في مساحة ضيقة، وكل منهم مشبوه، يكذب، أو يخفي سرًا. الحوارات هي السلاح الرئيسي، حيث تتحول المحادثات البسيطة إلى مواجهات نفسية. على سبيل المثال، مشهد “رسالة لنكولن”، حيث يروي وارن قصة مروعة ليستفز سميثرز، هو تحفة من التوتر والدراما. الحوارات تمتزج بين السخرية (مثل نقاش مانيكس عن الشريف)، التهديد (مثل تهكم دايزي السام)، والفلسفة (مثل حديث وارن عن العدالة).

تارانتينو يستخدم السرد غير الخطي ببراعة، خاصة في الفصل الرابع “دايزي حصلت على سر”، حيث يعود بالزمن ليكشف تفاصيل حاسمة عن مؤامرة في النزل. هذا الاختيار يحول الفيلم إلى لغز بوليسي، حيث يحاول المشاهد تجميع القطع مع الشخصيات. السيناريو أيضًا غني بالتعليقات الاجتماعية، حيث يناقش العنصرية، الحرب الأهلية، والعدالة في أمريكا ما بعد الحرب. شخصية وارن، على سبيل المثال، تُظهر التحديات التي واجهها السود في تلك الحقبة، بينما دايزي تمثل الفوضى والشر المطلق.

الفيلم مليء بالإشارات إلى السينما. تارانتينو يستلهم من أفلام السباغيتي ويسترن مثل The Good, the Bad and the Ugly، وأفلام الغموض مثل The Thing لجون كاربنتر، حيث يستخدم المساحة المغلقة لبناء التوتر. حتى عنوان الفيلم هو تحية لأفلام الويسترن الكلاسيكية مثل The Magnificent Seven. تارانتينو لا يكتفي بتقليد هذه الأنواع، بل يضيف لمسة حديثة تجعل القصة فريدة ومليئة بالطاقة.

تارانتينو كمخرج في The Hateful Eight يظهر نضجًا فنيًا لا مثيل له. الفيلم صُور بصيغة 70 مم باستخدام عدسات Ultra Panavision، وهي تقنية نادرة تُستخدم لأول مرة منذ الستينيات، مما يعطي الصورة اتساعًا ملحميًا حتى في المساحات الضيقة. تارانتينو يحول نزل مينيز إلى مسرح، حيث كل زاوية، كل طاولة، وكل نظرة تحمل معنى. التصوير، بقيادة روبرت ريتشاردسون، يلتقط جمال المناظر الثلجية في وايومنغ وكآبة النزل الداخلي ببراعة.

المشهد الافتتاحي، حيث تظهر عربة جون روث وسط عاصفة ثلجية، هو تحفة بصرية. تارانتينو يستخدم لقطة طويلة لتمثال صليب مغطى بالثلج، مصحوبة بموسيقى إنيو موريكوني، ليضع المشاهد في مزاج ملحمي وكئيب. داخل النزل، يستخدم تارانتينو الكاميرا بذكاء لتتبع حركات الشخصيات، مما يخلق شعورًا بالتوتر المستمر. على سبيل المثال، مشهد العشاء، حيث يتبادل الجميع النظرات المشبوهة، يُصور بزوايا تجعلك تشعر كأنك جزء من اللغز.

أحد أبرز مشاهد الفيلم هو “الفصل الأخير”، حيث تنفجر الأمور في معركة دموية. تارانتينو يصور العنف بأسلوبه المسرحي، حيث تتطاير الدماء وتتحطم الأثاث، لكنه يحافظ على التوتر النفسي حتى النهاية. مشهد “القهوة المسمومة” هو تحفة أخرى، حيث يستخدم تارانتينو السرد الصوتي (بصوته الخاص) ليكشف تفاصيل المؤامرة، مما يضيف لمسة بوليسية عبقرية. الفيلم يمزج بين الويسترن، الغموض، والدراما النفسية، وتارانتينو يدير هذا المزيج بمهارة تجعل كل لحظة مشحونة بالتشويق.

تارانتينو يلعب بالإضاءة والألوان بذكاء. المشاهد الخارجية مشبعة بالبياض الثلجي، بينما النزل مضاء بإضاءة خافتة تعكس الكآبة والخطر. الفلاشباكات، مثل قصة وارن المروعة، تُصور بألوان دافئة لتتناقض مع الواقع البارد. حتى التفاصيل الصغيرة، مثل تصميم النزل أو الأبواب المغلقة، تضيف إلى الشعور بالحصار.

The Hateful Eight يعتمد على طاقم تمثيلي مذهل، حيث تُقدم كل شخصية أداءً لا يُنسى. جون روث، الذي يؤدي دوره كورت راسل، هو صياد جوائز عنيف ومريب، لكنه يحمل شرفًا مشوهًا. راسل يجسد روث بقوة وسخرية، خاصة في مشاهد مواجهته مع دايزي. دايزي دوميرغ، التي تؤدي دورها جينيفر جيسون لي، هي الشريرة المطلقة: سادية، ذكية، ومليئة بالسخرية. أداء لي، الذي رُشح للأوسكار، هو مزيج من الفوضى والجاذبية، حيث تجعلك تكره دايزي وتعجب بها في نفس الوقت.

الرائد ماركيز وارن، الذي يؤدي دوره صامويل إل جاكسون، هو قلب الفيلم. وارن هو جندي أسود يواجه العنصرية في كل خطوة، لكنه يمتلك ذكاءً وثقة لا تُهز. جاكسون يقدم أداءً مذهلاً، خاصة في مشهد “رسالة لنكولن”، حيث يمزج بين الدراما والفكاهة السوداء. كريس مانيكس، الذي يؤدي دوره والتون غوغينز، هو شخصية مضحكة وغامضة، وغوغينز يضيف طاقة كوميدية تجعل الشخصية لا تُنسى.

الشخصيات الأخرى تضيف تنوعًا للفيلم. بوب المكسيكي (ديميان بيشير) غامض ومريب، أوزوالدو موبراي (تيم روث) ساحر وساخر، جو غيج (مايكل مادسن) هادئ لكنه خطير، وسانفورد سميثرز (بروس ديرن) يمثل العنصرية القديمة. كل ممثل يقدم أداءً قويًا، مما يجعل النزل مسرحًا لصراع الشخصيات.

الموسيقى في The Hateful Eight هي تحفة بحد ذاتها، حيث سجلها إنيو موريكوني، أسطورة موسيقى الويسترن، خصيصًا للفيلم – وهي المرة الأولى التي يعمل فيها مع تارانتينو. الموسيقى التصويرية، التي فازت بجائزة الأوسكار، تضيف طابعًا ملحميًا وكئيبًا للفيلم. مقطوعة “L’Ultima Diligenza di Red Rock” تفتتح الفيلم بإيقاع متوتر يعكس العاصفة القادمة. أغنية “Apple Blossom” لفرقة The White Stripes تُستخدم في لحظة فكاهية، مما يظهر جرأة تارانتينو في مزج الموسيقى الحديثة مع إطار تاريخي.

موريكوني يستخدم أصوات الأوركسترا لخلق شعور بالحصار والخطر، خاصة في مشاهد النزل. حتى الصمت يُستخدم بذكاء، كما في لحظات التوتر بين الشخصيات. تارانتينو يختار كل نغمة بعناية، بحيث تصبح جزءًا من السرد. على سبيل المثال، مقطوعة “Neve” تُستخدم في الذروة لتعزز الفوضى والدم.

The Hateful Eight مليء بالرموز والإشارات إلى السينما والتاريخ. النزل يرمز إلى أمريكا ما بعد الحرب الأهلية، حيث يجتمع أشخاص من خلفيات مختلفة (سود، بيض، كونفدراليون، اتحاديون) لكنهم ممزقون بالكراهية والعنصرية. العاصفة الثلجية ترمز إلى العزلة والحصار النفسي، بينما القهوة المسمومة تمثل الخيانة المخفية.

الفيلم مستوحى من أفلام السباغيتي ويسترن، خاصة أعمال سيرجيو ليوني، وأفلام الغموض مثل The Thing وReservoir Dogs (فيلم تارانتينو الأول). تارانتينو يحتفي بالسينما من خلال تفاصيل مثل الملصقات في النزل أو نقاش الشخصيات عن الأفلام. الفيلم أيضًا يناقش موضوعات مثل العنصرية، العدالة، والثقة. شخصية وارن، على سبيل المثال، تُظهر التحديات التي واجهها السود في أمريكا، بينما دايزي تمثل الفوضى التي لا تقيدها القوانين.

الفيلم أثار جدلاً بسبب تصويره للعنف والعنصرية، لكن تارانتينو دافع عن خياراته، مؤكدًا أن الفيلم يعكس الحقائق القاسية لتلك الحقبة بينما يقدم نقدًا للعنصرية المعاصرة. النهاية، التي تجمع بين العنف والتضحية، تترك المشاهد يفكر في معنى العدالة في عالم مليء بالكراهية.

التصوير السينمائي، بقيادة روبرت ريتشاردسون، هو تحفة بصرية. صيغة 70 مم تمنح الفيلم اتساعًا ملحميًا، حتى في المساحات الضيقة. اللقطات الخارجية للثلوج تلتقط جمال وايومنغ وقسوتها، بينما اللقطات الداخلية في النزل تعكس التوتر. المونتاج، بإشراف فريد راسكين، يحافظ على إيقاع متوازن بين الحوارات الطويلة والعنف المفاجئ.

الإخراج الفني، بإشراف يوجي تاكيشيغي، يعيد خلق نزل مينيز بتفاصيل دقيقة، من الأثاث الخشبي إلى الأدوات الريفية. الأزياء، مثل معطف وارن الثقيل أو قبعة روث، تعكس شخصياتهم. الكوريغرافيا في مشاهد العنف، خاصة الذروة، ممتعة ومسرحية، مع دماء تتطاير بأسلوب تارانتينو المميز.

عند إصدار The Hateful Eight في ديسمبر 2015، حصل على إشادة نقدية، مع تقييم 74% على Rotten Tomatoes بناءً على 336 مراجعة. حقق الفيلم إيرادات عالمية بلغت حوالي 155 مليون دولار مقابل ميزانية 44 مليون دولار. النقاد أشادوا بأداءات جاكسون، لي، وراسل، وموسيقى موريكوني، لكن البعض انتقد طول الفيلم وإيقاعه البطيء. الفيلم رُشح لثلاث جوائز أوسكار، بما في ذلك أفضل ممثلة مساعدة للي، وفاز بجائزة أفضل موسيقى تصويرية لموريكوني.

  • روجر إيبرت (مراجعة من موقع Ebert): “تارانتينو يحول نزلًا صغيرًا إلى مسرح ملحمي. الفيلم هو لغز بوليسي مغطى بالثلج والدم.”
  • بيتر ترافرز: “The Hateful Eight هو تارانتينو في أكثر حالاته جرأة. صامويل إل جاكسون يقدم أداءً يستحق الأوسكار.”
  • ليزا شوارتزباوم: “جينيفر جيسون لي هي إعصار من الفوضى. الفيلم طويل، لكنه يستحق كل دقيقة.”
  • جيفري أندرسون: “تارانتينو يثبت أن الحوارات يمكن أن تكون أكثر إثارة من أي معركة. الفيلم هو دراسة في الكراهية البشرية.”
  • ريتشارد كورليس: “The Hateful Eight هو ويسترن نفسي يجعلك تفكر وتضحك وتصرخ في نفس الوقت.”

The Hateful Eight أعاد إحياء الاهتمام بأفلام الويسترن النفسية، وألهم نقاشات حول العنصرية والعدالة في السينما. أداءات جاكسون ولي أصبحت أيقونية، والموسيقى التصويرية لموريكوني تُعتبر واحدة من أفضل أعمال القرن الحادي والعشرين. الفيلم أيضًا عزز مكانة تارانتينو كمخرج يجمع بين الترفيه والتفكير العميق.

الفيلم صدر في نسخة Roadshow خاصة، مع استراحة وعرض بصيغة 70 مم، مما جعله تجربة سينمائية فريدة. تارانتينو دافع عن هذا الاختيار، مؤكدًا أنه أراد إعادة الحنين إلى تجربة السينما الكلاسيكية. The Hateful Eight يظل واحدًا من أكثر أفلامه تعقيدًا وإثارة للجدل، حيث يقدم نقدًا للمجتمع الأمريكي من خلال عدسة الويسترن.

The Hateful Eight هو فيلم يجمع بين الغموض، الدراما، والعنف بطريقة لا يتقنها سوى تارانتينو. إنه لغز بوليسي، ويسترن ملحمي، ودراسة نفسية في نفس الوقت. الشخصيات الثمانية ليست مجرد أوغاد، بل هم مرايا تعكس الكراهية والخيانة في الطبيعة البشرية. الحوارات، الموسيقى، والتصوير يجتمعون لخلق تجربة سينمائية مكثفة وممتعة. النهاية، التي تمزج بين العنف والتضحية، تتركك تفكر في معنى العدالة في عالم مليء بالفوضى.

شخصيًا، شاهدت الفيلم أكثر من 20 مرة، وفي كل مرة أجد شيئًا جديدًا: تفصيلة في أداء جاكسون، لقطة ذكية في النزل، أو حوار يجعلني أضحك وأرتجف. مشهد “رسالة لنكولن” هو المفضل لدي، لكن الذروة الدموية تجعلني أقف وأصفق. The Hateful Eight هو فيلم يجعلك تحب السينما، يجعلك تؤمن بقوة الحوارات، ويثبت أن تارانتينو هو سيد هذا الفن. إذا لم تشاهده، فافعل ذلك الآن، واستعد لرحلة شتوية مليئة بالتشويق والخيانة! وإذا شاهدته، أخبرني: من هي شخصيتك المفضلة؟ هل هو وارن الذكي، أم دايزي الفوضوية؟

  • تارانتينو كتب السيناريو بعد تسريبه في 2014، وقرر تحويله إلى فيلم بعد قراءة حية ناجحة.
  • الفيلم صُور في ظروف شتوية قاسية في كولورادو لتعزيز الواقعية.
  • جينيفر جيسون لي تعلمت العزف على الغيتار لمشهد أغنية “Jim Jones at Botany Bay”.
  • صامويل إل جاكسون ساعد في تطوير قصة “رسالة لنكولن” لتعكس تجربة السود في تلك الحقبة.
  • الفيلم يحتوي على 29 حالة قتل، أقل من Django Unchained لكنه لا يزال دمويًا.
  • تارانتينو استخدم عدسات أصلية من فيلم Ben-Hur (1959) لتصوير بصيغة 70 مم.
  • إنيو موريكوني كتب الموسيقى في ستة أسابيع، واعتبرها واحدة من أفضل أعماله.
  • الفيلم مُنع في بعض دور العرض بسبب العنف، لكنه حظي بتقدير كبير في أوروبا.
  • تارانتينو ظهر في الفيلم كراوي في الفصل الرابع، مما أضاف لمسة شخصية.
  • النزل مستوحى من تصميمات أفلام الويسترن الكلاسيكية، مع تفاصيل مثل المدفأة والبار.

أضف تعليق