جيم جارموش: سينما الهامش التي ترسم الإنسان
تخيّل أنك تشاهد فيلمًا لا يعتمد على الانفجارات أو الصراعات الدرامية الكبيرة، بل على اللحظات الصغيرة، الهادئة، التي تكشف جوهر الإنسان. هذه هي سينما جيم جارموش، المخرج الأمريكي الذي اختار أن يكون لامنتميًا، يصنع أفلامًا لا تشبه إلا نفسه. منذ فيلمه الأول عطلة دائمة (1980) إلى تحفته زهور محطمة (2005)، يرسم جارموش لوحات إنسانية لشخصيات هامشية، ضائعة في عالم لا يرحم، لكنهم يبحثون عن معنى، حتى لو كان هشًا.
بداية التمرد: من نيويورك إلى كان
وُلد جيم جارموش عام 1953 في أوهايو، لكنه سرعان ما هرب إلى نيويورك في السابعة عشرة، حيث درس الأدب في جامعة كولومبيا، ثم السينما في جامعة نيويورك، وبعدها في باريس. هناك، بدأت رحلته كمساعد مخرج في فيلم برق على ماء لنيكولاس راي وفيم فيندرز. في 1980، أخرج عطلة دائمة بميزانية لا تتجاوز 15 ألف دولار، ليعلن عن نفسه كصوت مستقل لا يخضع لقوانين هوليوود.
فيلمه الثاني أغرب من الجنة (1984)، المصور بالأبيض والأسود وبطولة الموسيقي جون لوري، كان بمثابة انفجار هادئ. مستوحى من أغنية “أضع التعويذة عليك” لسكريمر جي هوكينز، فاز الفيلم بجائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان، مؤكدًا مكانة جارموش كأحد أعمدة السينما المستقلة. منذ ذلك الحين، أصبح رمزًا للإبداع الحر، رافضًا العروض المغرية من الاستوديوهات الكبرى ليحافظ على رؤيته الفنية.
سينما اللحظات غير الدرامية
“أنا مهتم باللحظات غير الدرامية من الحياة”، يقول جارموش، وهذا هو سر سحره. أفلامه لا تعتمد على ذروات درامية مفتعلة، بل على تفاصيل الحياة اليومية: انتظار طويل، صمت عميق، أو نظرة عابرة. في الرجل الميت (1995)، يأخذنا إلى الغرب الأمريكي عام 1875، لكن ليس في ويسترن تقليدي. وليام بليك (جوني ديب)، شاب محاسب، يصل إلى بلدة نائية ليجد وظيفته قد سُلبت. بعد سلسلة من الأحداث العنيفة، يفر برفقة هندي أحمر (غاري فارمر) يعتقد أنه الشاعر وليام بليك. رحلتهما، الممزوجة بالعنف والحنان، هي تأمل في الهوية والاغتراب، مع موسيقى نيل يونغ التصويرية التي تضيف طبقة من الشاعرية.
في قطار الغموض (1989)، يستكشف جارموش مدينة ممفيس وأسطورة الروك أند رول، بينما غوست دوغ (1999) يقدم قاتلًا مأجورًا أمريكيًا يعيش وفق أخلاق الساموراي اليابانية، ممزوجًا بتربية الحمام الزاجل. هذه الأفلام، كما يصفها الناقد جوناثان ويتس، تشبه قصائد الهايكو: بسيطة، عميقة، ومليئة بالتفاصيل التي تجعل المألوف غريبًا.
زهور محطمة: رحلة إلى الماضي
في زهور محطمة، الحائز على الجائزة الكبرى في كان 2005، يقدم جارموش واحدة من أجمل لوحاته. بيل موراي يجسد دون جونستون، رجلًا خمسينيًا يعيش في عزلة هادئة، غارقًا في صمت صوفي. بعد هجر صديقته له، يتلقى رسالة مجهولة تخبره أن لديه ابنًا يبحث عنه. بدافع من جاره المهووس بالألغاز، ينطلق دون في رحلة عبر أمريكا لزيارة خمس من عشيقاته السابقات، حاملًا باقة زهور وردية في كل زيارة.
كل لقاء هو فيلم قصير بحد ذاته، مليء بالفرح والحزن والغموض. دون لا يبحث عن إجابات واضحة، بل ينجرف مع التيار، كما شخصيات جارموش الأخرى. النساء – شارون ستون، فرانسيس كونروي، جيسيكا لانغ، تيلدا سوينتن – يمثلن أطياف الماضي، لكنهن يظللن غريبات عنه. في النهاية، لا يصل دون إلى يقين، لكنه يكتشف شيئًا أعمق: الحاضر هو كل ما يملك. “الماضي انتهى، والمستقبل لم يصل بعد”، يقول، في جملة تلخص فلسفة جارموش.
عبقرية الصمت والبساطة
جارموش لا يعتمد على تقنيات مبهرة أو إضاءة درامية. في زهور محطمة، الكادرات مضيئة، بلا ظلال، كأنها تعكس وضوح الحياة الخارجي، بينما العتمة تكمن داخل الشخصيات. بيل موراي، بأدائه الساكن، يجسد هذا التناقض ببراعة، مقابل حيوية الممثلات اللواتي يمثلن الحياة بكل تعقيدها. “أنا لا أختار الممثلين لشهرتهم”، يقول جارموش، “بل لأنني أرى الدور فيهم”. هكذا اختار موراي لدون، وشارون ستون لتكون أرملة مفعمة بالحياة، وتيلدا سوينتن لهيبية غاضبة.
جارموش يرى أمريكا بعيون الغريب، كما فعل المصورون مثل روبرت فرانك. شخصياته – من الهنود الحمر إلى الساموراي الأمريكي – هامشية، مقصية، لكنها تحمل إنسانية عميقة. أفلامه ليست عن الصراعات الكبرى، بل عن اللحظات العابرة: انتظار في مقهى، محادثة مع بائعة زهور، أو صمت طويل. هذه اللحظات هي التي تجعل سينماه، كما يقول، “كاتدرائية” فنية، تُبنى لقطة بلقطة، حتى تكتمل تحفتها المبهرة.
لماذا جارموش؟
في عالم تهيمن عليه هوليوود، يبقى جارموش رمزًا للاستقلالية. رفضه للاستوديوهات الكبرى، وعناده الفني، جعلاه صوتًا فريدًا. أفلامه لا تقدم إجابات، بل تسأل: ماذا يعني أن تكون إنسانًا؟ كيف نواجه وحدتنا؟ زهور محطمة، مثل بقية أعماله، مرآة لأمريكا بكل متاهاتها، وتذكير بأن الزهور، حتى لو تحطمت، تحمل جمالًا لا يموت.


أضف تعليق