كوينتن تارانتينو: سينما ولدت من شغف الفيديو
تخيّل شابًا يقضي أيامه في متجر فيديو، محاطًا بآلاف الأفلام، يشاهد، يناقش، ويعيش داخل عوالم السينما. هذا هو كوينتن تارانتينو، المخرج الذي لم يدرس الإخراج في مدرسة، بل تعلمه من أشرطة الفيديو. أفلامه – من كلاب المستودع إلى اقتل بيل – ليست مجرد قصص، بل لوحات منسوجة من ذكريات سينمائية، حوارات مستعارة، وزوايا كاميرا تحمل أصداء أفلام أحبها. تارانتينو هو رمز “جيل الفيديو”، جيل غيّر السينما بفضل شغفه كمشاهد.
من متجر الفيديو إلى الشاشة الكبيرة
وُلد تارانتينو عام 1963 في كنف أم عاشقة للأفلام والتلفزيون، سمّته على اسم شخصية من مسلسل دخان السلاح. نشأ ملتصقًا بالشاشة، يتشرب السينما والتلفزيون كجزء من هويته. في سن الثانية والعشرين، وجد نفسه يعمل في متجر فيديو بكاليفورنيا، حيث أمضى ساعات طويلة يشاهد الأفلام ويناقشها مع صديقه روجر أفاري. هناك، بدأت رغبته في صناعة السينما تتشكل.
خطوته الأولى كانت كتابة سيناريو بعنوان عيد ميلاد أعز أصدقائي، لكنه لم يكتمل. بعدها، أكمل نصين: رومانسية حقيقية وقتلة بالفطرة. لكنه باع النصوص، ففقد السيطرة عليها، وأُجريت تعديلات على قتلة بالفطرة جعلتها بعيدة عن رؤيته. لكن الحلم الحقيقي كان كلاب المستودع. خطط تارانتينو لتصويره بميزانية متواضعة وأصدقاء كممثلين، لكن القدر تدخل. التقى بالمنتج لورانس بندر، الذي ربطه بالممثل هارفي كيتيل. أُعجب كيتيل بالسيناريو، دعم الفيلم، وساعد في رفع ميزانيته واختيار ممثلين محترفين. في 1992، عُرض كلاب المستودع في مهرجان صندانس، ثم اشترت شركة ميراماكس حقوقه، ليصبح تارانتينو اسمًا يتردد في عالم السينما.
جيل الفيديو: السينما من المشاهدة
كيف يصنع شاب لم يدرس الإخراج ولم يعمل في الإنتاج السينمائي فيلمًا يُبهر العالم؟ الإجابة تكمن في “جيل الفيديو”. في السبعينيات، كانت السينما مقتصرة على دور العرض أو التلفزيون، لكن في الثمانينيات، غيّرت أشرطة الفيديو المنزلية كل شيء. أصبح بإمكان المشاهد اقتناء الأفلام، إعادة مشاهدتها، تكرار المشاهد، أو حتى تجميد اللقطات. بالنسبة لتارانتينو، كان الفيديو مدرسته. لم يتعلم السينما من كتب أو محاضرات، بل من مشاهدة مكثفة لأفلام قديمة وجديدة، تحليلها، وتشريحها.
هذه المشاهدة المفرطة جعلت أفلامه عبارة عن حوار مع السينما نفسها. في كلاب المستودع، تجد طابع أفلام السطو مثل القتل لستانلي كوبريك. بالب فيكشن يمزج بين أفلام العصابات والفيلم نوار بأسلوب متلاعب. جاكي براون يستعيد روح أفلام الستينيات والسبعينيات الرخيصة، بينما اقتل بيل يحاكي أفلام الحركة من هونغ كونغ والأنيمي الياباني. كل فيلم يحمل إحالات في الحوارات، الأحداث، زوايا التصوير، وحتى الجو العام. تارانتينو لا يكتفي بالاقتباس، بل يصنع منه لغة جديدة.
سينما مشبعة بالذكريات
أفلام تارانتينو تشبه دفتر مذكرات سينمائي. كل لقطة، كل حوار، يحمل أثرًا من فيلم شاهدَه أو أغنية أحبها. لكنه لا يقلد بشكل أعمى. إحالاته واعية، موظفة لخدمة رؤيته. إنه كالرسام الذي يستخدم ألوانًا مألوفة ليخلق لوحة فريدة. كلاب المستودع ليست مجرد فيلم سطو، بل تأمل في الخيانة والصداقة. بالب فيكشن يحول قصص العصابات إلى ملحمة شعرية. جاكي براون يعيد إحياء نوع سينمائي مندثر بقصة إنسانية. واقتل بيل يحول أفلام الحركة إلى رحلة انتقام مليئة بالعاطفة.
تارانتينو ليس مخرجًا تقليديًا، بل مشاهد تحول إلى مبدع. شغفه بالسينما – من أفلام الويسترن إلى الأنيمي – هو وقود إبداعه. أفلامه ليست دروسًا نظرية، بل تجارب حية تنبض بذكرياته كمشاهد. عندما تشاهد تارانتينو، تشعر أنك تتصفح مكتبته، تسمع أغانيه المفضلة، وتعيش لحظاته كعاشق للسينما.
لماذا تارانتينو؟
تارانتينو ليس مجرد مخرج، بل ظاهرة غيرت وجه السينما. من متجر فيديو متواضع إلى مهرجانات عالمية، صنع عالمًا سينمائيًا يعكس شغفه وحياته. أفلامه دعوة لعشاق السينما ليغوصوا في بحر من الإحالات، لكنه في النهاية يروي قصصًا إنسانية بلغته الخاصة. كما يقول هو: “أنا لا أصنع أفلامًا لنوع معين، أنا أعبث بها”. هذا هو تارانتينو: مخرج، مشاهد، وعاشق للسينما، يصنع من ذكريات الفيديو تحفًا فنية خالدة.


أضف تعليق