تخيّل أنك تشاهد فيلمًا، لكن بدلاً من أن يروي قصة واحدة، يفتح أمامك أبوابًا إلى أفلام أخرى، شخصيات من الماضي، وذكريات سينمائية تتراقص في ذهنك. هذه هي سحر سينما كوينتن تارانتينو. أفلامه ليست مجرد قصص، بل لوحات فنية منسوجة من خيوط أفلام رآها، موسيقى أحبها، وثقافة شعبية نشأ عليها. كلما كنت أكثر إلمامًا بالسينما، كلما اكتشفت طبقات جديدة في عالمه.
إحالات تنبض بالحياة
في كلاب المستودع (1992)، يبدأ الفيلم بمشهد يسير فيه أبطال العصابة معًا في الشارع، في إشارة واضحة إلى الزمرة المتوحشة لسام بيكنباه. لكن تارانتينو لا يكتفي بالإشارة البصرية. يستعير من مدينة تحترق لهونغ كونغ (رينغو لام) علاقة المخبر المتخفي بأحد أفراد العصابة، وطريقة موت الشخصيات، وحتى بعض الحوارات المنقولة نصًا. الحوار نفسه مليء بالتلميحات، مثل الإشارة إلى الممثلة بام غرير أو لي مارفن، كأنك تتصفح أرشيف السينما.
في بالب فيكشن (1994)، تبدو أوما ثورمان وكأنها خرجت من عيش حياتي لفرانسوا تروفو: قصة شعرها، ملابسها الأبيض والأسود، وحتى تأملاتها حول ضرورة الكلام. مشهد آخر، حين يرى فينغ ريمز بروس ويليس عند إشارة مرور، يعيدنا إلى سايكو لهيتشكوك، حيث يتقاطع رئيس العمل مع موظفته بنفس الطريقة.
في جاكي براون (1997)، يستخدم تارانتينو خط عنوان مستوحى من فوكسي براون لبام غرير، ويختار ثلاثة من نجوم تلك الحقبة – بام غرير، روبرت فورستر، وسيد هيغ – ليحيي نوعًا سينمائيًا مندثرًا. حتى حوار صامويل جاكسون، وهو يتحدث عن عشاق الأسلحة الذين يشترون سلاحين ليصبحوا “قتلة”، يشير إلى القاتل لجون وو. وفي اقتل بيل (2003-2004)، تظهر أوما ثورمان ببدلة صفراء مستوحاة من بروس لي في لعبة الموت، كتحية صريحة لأيقونة السينما.
أصالة من الاقتباس
قد يظن البعض أن تارانتينو مجرد “سارق” لأفكار الآخرين، لكنه بعيد عن ذلك. أفلامه ليست مجرد نسخ، بل خليط مبتكر يشبه عصير الفواكه: كل مكون يضيف نكهة، لكن الطعم النهائي فريد. ثلاثة أسباب تجعل تارانتينو مميزًا:
- إبداع من الاقتباس: إحالاته ليست تقليدًا عشوائيًا، بل تخلق نوعًا جديدًا من الأفلام. مثل قصيدة الأرض الخراب لتي. إس. إليوت، حيث كل سطر يحمل إشارة أدبية، أفلامه تحمل إشارات سينمائية تخدم السياق.
- غرض واعٍ: الاقتباسات موظفة لخدمة القصة. بدلة أوما الصفراء ليست مجرد تحية لبروس لي، بل تعكس روح المقاتلة في شخصيتها.
- مظهر لا مضمون: الإحالات تبقى على السطح – الأزياء، الحوار، الموسيقى – بينما المضمون خالص من رؤية تارانتينو. إنها مجرد إطار لقصص أصلية.
تارانتينو نفسه يقول: “أفلامي تبدو وكأنها تنتمي لنوع معين، لكنني أعبث به”. يبدأ بالتقليد، ثم يكسر القوالب، مضيفًا لمسته الشخصية. حتى إحالاته إلى أفلامه الخاصة – مثل اسم “فيغا” في كلاب المستودع وبالب فيكشن، أو الجدار الأحمر الذي يتكرر – أصبحت جزءًا من أسلوبه المتعمد.

سينما شخصية لهواة السينما
تارانتينو، كجزء من “جيل الفيديو” إلى جانب كيفن سميث وبول توماس أندرسون، يصنع سينما شخصية للغاية. لكن شخصيتها لا تكمن في الواقعية – قصصه بعيدة عن الواقع – بل في شغفه كمشاهد ومعجب. أفلامه تعكس مكتبته السينمائية والموسيقية: من أفلام هونغ كونغ إلى الويسترن، ومن موسيقى الروك إلى أغاني السبعينيات. تشعر وأنت تشاهد أنك تعرف ذوقه، هواياته، وما يثير حماسه.
مثل كيفن سميث، الذي يظهر هوسه بالقصص المصورة ورياضة الهوكي، تارانتينو يحمل شغفه إلى الشاشة. لكن كل مخرج من هذا الجيل يحمل بصمته الخاصة، نتيجة اختلاف خبراتهم ودراساتهم. ما يجمعهم هو أن أفلامهم مثالية للعرض المنزلي. يمكنك مشاهدة جزء من بالب فيكشن أو جاكي براون دون الحاجة لإكمال الفيلم، وكأنها صُنعت لأشرطة الفيديو التي شكلت جيلهم.
لماذا تارانتينو؟
تارانتينو ليس مجرد مخرج، بل ظاهرة. أفلامه، من كلاب المستودع إلى اقتل بيل، أثرت في جيل من المخرجين مثل غاي ريتشي ودوغ ليمان. هوايته للاقتباس لم تمنعه من خلق هوية سينمائية فريدة. إنه كالطاهي الذي يمزج مكونات مألوفة ليصنع طبقًا جديدًا. أفلامه دعوة لعشاق السينما ليغوصوا في عالم من الإحالات، لكنه في النهاية يروي قصصًا إنسانية بلغته الخاصة. تارانتينو يذكرنا أن السينما ليست مجرد قصة، بل حياة نعيشها، ذكرى نستعيدها، وشغف لا ينتهي.


أضف تعليق